فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ} أي: في وسطه: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي: لتهلكني بالإغواء: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} أي: بالهداية، واللطف بي: {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي: معك في النار. وقوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} من تتمة كلامه لقرينه، تقريعًا له، أو معاودة على محادثة جلسائه، تحدثًا بنعمة الله تعالى.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} أي: لنيل مثله، فليجدّ المجدون، ولما وصف ملاذّ أهل الجنة، تأثره بمطاعم أهل النار، بقوله سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} وهي شجرة كريهة المنظر والطعم، كما ستذكر صفتها.
{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً} أي: محنة وعذابًا: {لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا} أي: حملها: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} أي: مثل ما يتخيل ويتوهم من قبح رؤوس الشياطين، فهي قبيحة الأصل، والثمر، والمنظر، والملمس. قال الزمخشري: وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية، وقبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان. وإذا صوره المصوّرون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدّر، وأهوله. كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه. فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وهذا تشبيه تخييلي. انتهى. أي: لأمر مركوز في الخيال. وبه يندفع ما يقال إنه تشبيه بما لا يعرف، وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفًا في الخارج. بل يكفي كونه مركوزًا في الذهن والخيال، ألا ترى امرأ القيس- وهو ملك الشعراء- يقول:
وَمَسْنُوْنَةٌ زِرْقٌ كَأَنْيَاْبِ أَغْوَاْلِ

وهو لم ير الغول، والغول نوع من الشياطين؛ لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة، وإن كان قابلًا للتشكل.
{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} أي: من طلعها: {فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي: لغلبة الجوع، أو الإكراه على أكلها.
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ} أي: لشرابًا كالصديد، أو الغساق، ممزوجًا من ماء متناه في الحرارة، يقطع أمعاءهم.
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} أي: مصيرهم: {لَإِلَى الْجَحِيمِ} أي: إلى دركاتها، أو إلى نفسها لا مفر لهم ولا محيص كيفما تحولوا. قال ابن كثير: أي: ثم إن مردّهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وسعير تتوهج، فتارة في هذا، وتارة في هذا. كما قال تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]، هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية. وهو تفسير حسن قوي. انتهى.
ومن لطائف الإشارات في هذه الآية، ما قاله القاشاني، وعبارته: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ثمراتها من الرذائل والخبائث، كأنها من غاية القبح والتشوه والخبث بالتنفر: {رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} أي: تنشأ منها الدواعي المهلكة، والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة، والأعمال السيئة، فتلك أصول الشيطنة، ومبادئ الشر والمفسدة، فكانت رؤوس الشياطين: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} يستمدون منها ويتغذون ويتقوون، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور، ولا يتلذذون إلا بها: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} بالهيئات الفاسقة، والصفات المظلمة، كالممتلئ غضبًا، وحقدًا، وحسدًا، وقت هيجانها: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} الأهواء الطبيعية، والمُنى السيئة الرديئة، ومحبات الأمور السفلية، وقصور الشرور الموبقة، التي تكسر بعض غلة الأشرار: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} لغلبة الحرص والشره، بالشهوة، والحقد، والبغض وأمثالها، واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها. انتهى.
وهذه الإشارات من المجازات التي تتسع لها اللغة؛ لأنها لا تنحصر في الحقيقة، ولا يقال إنها المرادة هنا، لنبؤها عن نظائرها من آيات الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. والإهراع: الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على آثارهم، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير نظر وبحث، بل مجرد تقليد وترك اتباع دليل. قال الرازي: ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد، لكفى.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ} أي: أنبياء حذروهم العواقب.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي: الذين أُنذروا وخُوّفوا، فقد أُهلكوا جميعًا.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: الذين أخلصوا دينهم لله، أو الذين أخلصهم تعالى لدينه، على القراءتين؛ أي: فإنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم. ثم أشار تعالى إلى أنبائهم، تثبيتًا لفؤاده صلوات الله عليه، وتبشيرًا لأتباعه، بقوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} أي: بقوله: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي: نحن بهلاك قومه؛ لأنه لا يجيب المضطر غيره: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي: من الغرق والطوفان. والمراد بأهله، من آمن معه: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} أي: في الأرض بعد هلاك قومه.:
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي: أبقينا عليه في الأمم بعده ثناء حسنًا، فمفعول تركنا محذوف، أو ما حكاه تعالى بقوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} أي: أن يسلموا عليه إلى يوم القيامة؛ أي: أن يقولوا هذه الجملة. قال السمين: قوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} مبتدأ وخبر، وفيه أوجه:
أحدها أنه مفسر ل: تركنا. والثاني أنه مفسر لمفعوله. أي: تركنا عليه شيئًا وهو هذا الكلام. أو ثَمّ قول مقدر؛ أي: فقلنا سلام. أو ضمن تركنا معنى قلنا، أو سلط تركنا على ما بعده. وقرئ {سلامًا} وهو مفعول به ل: تركنا.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليل لما أثيب به من التكرمة، بأنه مجازاة له على إحسانه، وهو مجاهدته في إعلاء كلمة الله، والدعوة إلى الحق ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي: المصدقين، وتعليل إحسانه بالإيمان، إظهار لفضل الإيمان ومزيته، حيث مدح من هو من كبار الرسل به، فالمقصود بالصفة مدحها نفسها، لا مدح موصوفها، وذلك لأن الإيمان أساس لكل خير يوجد، ومركز لدائرته، ومسك خاتمته.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أي: من كفار قومه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {والصافات صَفَّا} قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ، والزَّاجراتِ والتاليات، في صاد {صَفًَّا} وزاي {زَجْرًا} وذال {ذِكْرًا} وكذلك فَعَلا في {والذاريات ذَرْوًا} [الذاريات: 1] وفي {فالملقيات ذِكْرًا} [المرسلات: 5] وفي {العاديات ضَبْحًا} [العاديات: 1] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين. وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه. وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ، وحمزةَ لا يُجيزه. وهذا كما اتفقا في إدغام {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} في سورة النساء [الآية: 81]، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه. وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك.
ومفعولُ {الصَّافَّات} و{الزَّاجراتِ} غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى: الفاعلات لذلك. وأعرب أبو البقاء {صَفًَّا} مَفْعولًا به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ. قلت: وهذا ضعيفٌ. وقيل: هو مرادٌ. والمعنى: والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ، كقوله: {والطير صَآفَّاتٍ} [النور: 41]، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ. والزَّجْرُ: الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ. وأنشد:
زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا ** أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم

وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ: إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك. وأمَّا {والتاليات} فَيجوز أَنْ يكونَ {ذِكْرًا} مفعولَه. والمرادُ بالذِّكْر: القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ. ويجوز أَنْ يكونَ {ذِكْرًا} مصدرًا أيضًا مِنْ معنى التاليات. وهذا أوفقُ لِما قبلَه. قال الزمخشري: الفاءُ في {فالزَّاجراتِ}{فالتالياتِ} إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه:
أيا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ ** الصَّابحِ فالغانِمِ فالآيِبِ

كأنه قال: الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه، كقوله: خُذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك: «رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين» فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ. فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ، وإمَّا على العكس. وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ، والزاجراتُ أفضلَ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلًا، أو على العكس يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواوُ في هذه للقسمِ، والجوابُ: قولُه: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ}. وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ: هل هي للقسمِ أو للعطف؟
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)}.
قوله: {رَّبُّ السماوات} يجوز أَنْ يكونَ خبرًا ثانيًا، وأن يكون بدلًا مِنْ {لَواحدٌ} وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر. وجَمْعُ المشارقِ والمغارِبِ باعتبارِ جميع السنة، فإنَّ للشمسِ ثلاثَمئةٍ وستين مشرقًا، وثلاثَمئة وستين مَغْربًا. وأمَّا قولُه: {المَشْرِقَيْن} و{المغربين} فباعتبار الصيف والشتاء.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)}.
قوله: {بِزِينَةٍ الكواكب} قرأ أبو بكر بتنوين {زينة} ونصب {الكواكب} وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ الزينةُ مصدرًا، وفاعلُه محذوفٌ، تقديره: بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها. والثاني: أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ: اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ، فتكون {الكواكبُ} على هذا منصوبةً بإضمارِ أَعْني، أو تكون بدلًا مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي: كواكبها، أو من محل {بزينة}.
وحمزةُ وحفصٌ كذلك، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة: ما يُزان به، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة.
والباقون بإضافةِ {زينة} إلى {الكواكب}. وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو: ثوبُ خَزّ. الثاني: أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي: بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها. والثالث: أنه مضافٌ لمفعولِه أي: بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها، ورفعِ الكواكب. فإنْ جَعَلْتَها مصدرًا ارتفع {الكواكب} به، وإنْ جَعَلْتَها اسمًا لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع {الكواكبُ} بإضمار مبتدأ أي: هي الكواكبُ، وهي في قوة البدلِ. ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن. وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ. وهو غلَطٌ لقولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ} [البلد: 14] كما سيأتي إن شاء الله.
{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)}.
قوله: {وَحِفْظًا} منصوبٌ على المصدر بإضمارِ فعلٍ أي: حَفِظْناها حِفْظًا، وإمَّا على المفعولِ مِنْ أجله على زيادة الواوِ. والعاملُ فيه {زيَّنَّا} أو على أَنْ يكونَ العاملُ مقدرًا أي: لِحفْظِها زَيَّنَّاها، أو على الحَمْلِ على المعنى المتقدم أي: إنَّا خَلَقْنا السماءَ الدنيا زينةً وحِفظًا. و{من كلِّ} متعلقٌ ب {حِفْظًا} إنْ لم يكنْ مصدرًا مؤكِّدًا، وبالمحذوفِ إنْ جُعِل مصدرًا مؤكدًا. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل {حِفْظًا}.
{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)}.
قوله: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ} قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد السين والميم. والأصل: يَتَسَمَّعون فأدغم. والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال: لو كان مخففًا لم يتعَدَّ بإلى. وأُجيب عنه: بأنَّ معنى الكلامِ: لا يُصْغُون إلى الملأ. وقال مكي: لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى بإلى تَعَدَّى سَمِع بإلى وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ، واستمع أيضًا مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه.
وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير: مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ. وهو فاسدٌ. ولا يجوزُ أيضًا أَنْ تكونَ جوابًا لسؤال سائلِ: لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك. وقال بعضهم: أصلُ الكلامِ: لئلا يَسْمَعوا، فَحُذِفت اللامُ، وأَنْ، فارتفع الفعلُ. وفيه تَعَسُّفٌ. وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً، وأنْ تكونَ حالًا، وأنْ تكونَ مستأنفةً، فالأولان ظاهرا الفسادِ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضًا، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ.
{دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)}.
قوله: {دُحُورًا} العامَّةُ على ضم الدال. وفيه أوجهٌ، المفعولُ له، أي: لأجلِ الطَّرْد. الثاني: أنه مصدرٌ ل {يُقْذَفُون} أي: يُدْحَرون دُحورًا أو يُقْذَفُون قَذْفًا. فالتجوُّزُ: إمَّا في الأول، وإمَّا في الثاني. الثالث: أنه مصدرٌ لمقدرٍ أي: يُدْحَرون دُحورًا. الرابع: أنه في موضع الحال أي ذَوي دُحورٍ أو مَدْحورين. وقيل: هو جمعُ داحِر نحو: قاعِد وقُعود. فيكون حالًا بنفسه من غيرِ تأويلٍ. ورُوِي عن أبي عمرٍو أنه قرأ {ويَقْذِفُون} مبنيًا لفاعل.
وقرأ علي والسلمي وابن أبي عبلة {دَحورا} بفتح الدال، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ، أي: قذفًا دَحُورا، وهو كالصَّبور والشَّكور. والثاني: أنه مصدرٌ كالقَبول والوَلوع. وقد تقدَّم أنه محصورٌ في أُلَيْفاظ.
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}.
قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعُ المحلِّ بدلًا مِنْ ضميرِ {لا يَسَّمَّعون} وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب. والثاني: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. والمعنى: أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف. قلت: ويجوز أَنْ تكون {مَنْ} شرطيةً، وجوابُها {فَأَتْبَعَه} أو موصولةً وخبرُها {فَأَتْبَعَه} وهو استثناءٌ منقطعٌ. وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعًا كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22- 23]. والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية.
وقرأ العامَّةُ {خَطِفَ} بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً. وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل. وعنهما أيضًا وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً. وعن الحسن أيضًا خَطِفَ كالعامَّة. وأصل القراءَتَيْن: اخْتَطَفَ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً، فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعًا لحركةِ الخاء. وهذه واضحةٌ. وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جدًا؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ. وقد وُجِّه على التوهُّم. وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة. وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى. وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ.